الأكاديميا وسفينة الصحراء

إنَّ انتشار الإعلام الجديد بوسائل تواصله المتنوِّعة حَفَزَ كثيرًا من النَّاسِ على الظهورِ الإعلامي سواء أكان ظهورًا مفيدًا أم غير ذلك؛ لأنَّ الأساس عند بعض النَّاس أن يظهرَ، ومما لاشكَّ فيه ولا غرو أنَّ الظهورَ لمجرّد الظهور يعدُّ أمرًا غير محمود، فكما قيل: “حُبُّ الظُّهور يَقصمُ الظُّهور”. وما آسف إلا على من ظهر أخيرًا وهو في أول الطريق موهمًا نفسه أنَّه قد نال من العلم ما نال، فاستحقَّ الظهور، فهو كما قال الحافظ الذهبي: “يريد أن يطيرَ، ولمّا يريش”. إنَّ إرادة التحليق لا تصنع من الطير طائرًا، حتى ولو توَّهم أنه يطير، فالطيران له مقوّمات وأسس، أولها، الريش، مثله تمامًا ذلك الرجل الذي يفتقد لأسس العلم ومقوّمات الظهور، فهو يريد حقًّا أن يظهر، ثم يظهر، ولكنه من دون ريش، ومثل هذا مآله السقوط؛ لأنه يركن إلى خواء، فلن يجد ما يسعى إليه حتى وإن زعم ذلك، لتكون عاقبته كما قيل: ” من استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه”، والحكم والأمثال عند العرب كثيرة في هذا الموضوع؛ لأنَّ رغبة الظهور والحرص عليها قديمة قدم الإنسان، ولكنَّ نهاية الحرص معلومة، قال يزيد بن الحكم:

رأيت السّخيّ النفس يأتيه رزقه … هنيئا، ولا يعطى على الحرص جامعُ

وكلّ حريص لن يجاوز رزقه … وكم من موفّى رزقه وهو وادع

نشأت لدى الإنسان اليوم رغبة ملحة لإظهار ما يملك للآخرين، أو إظهار ما يدَّعي أنه يملك، ويذكرني ذلك بالأعرابيِّ الذي رغب أن يذكرَه الناسُ ولو بلعنِهِ، حيث كان الجهل باعث الأعرابي على الشهرة، وفي هذا الجهل يشتركُ معه كثير اليوم، وتجدر الإشارة إلى أنَّ أغلبَ من يفعل ذلك يفعله لفقدٍ شيءٍ ما .. علمناه أو جهلناه، لذا فهو ظهور الجاهل الراغب أن يظنَّ الناس أنه ليس جاهلًا. هذا الظهور السيئ مفهوم؛ لأنه ينبع عن جهل، ولكنَّ ظهور من ينبغي أن يكون عالمًا ظهور الجاهل أمرٌ غير مفهوم، بل غير مقبول؛ وأعني به الأكاديمي أو المثقف، حيث أزعم أنهم ليسوا جاهلين؛ لأنه لم ينالوا ما نالوا من وظيفة وحظوة، إلا لأنهم كانوا أفضل من غيرهم، وهذه المعايير مؤشرات وليست أدلة، ولكنها مؤشرات لها محلها من النظر والتدقيق.

دأب بعض الأكاديميين والمثقفين مؤخرًا على الظهور المتكرر، ولكنهم مع كل ظهور يؤكدون حقيقة واحدة أنهم لم يكونوا على قدر الظنِّ أو على قدر الثقة عند جمهورهم، فأصبح ظهورهم أسوأ من ظهور الجاهل؛ لأن المقوِّمات عندهم أقوى، والفرص أكبر. هذا الظهور مع قلَّةِ البضاعة يجرُّ صاحبه دون أن يعلمَ إلى منطقةٍ يصبح وجوده فيها مثل العدم، فهناك أكاديميُّون يملكون معلومة واحدة فقط في تخصص معين؛ لأن التخصص مهم بالنسبةِ لهم، ولكنَّهم يقاتلون للمشاركةِ في كل فرصة تمنحهم ظهورًا أكثر، حتى لو كان موضوع المشاركة لا يتصل بمعلومته الواحدة التي لديه، فتجده -على سبيل المثال- تارةً في مؤتمرٍ عن الرياضيّات يتحدث، ثم يغرد سلسة تغريداتٍ عن القانون والمحاماة، وبعد هذه التغريدات يُعلن أنه سيشارك في ملتقى يُعنى بالفلسفة. قد تبدو الأمور غير منطقية حيث لا يوجد أي ترابط بين هذه المواضيع، ولكنَّ الحقيقة أنَّ الرابط هو: معلومته الوحيدة!

يتعاملُ الأستاذ مع معلومته تعامل الطالب في قصةِ (سفينة الصحراء)، حيث رسب الطالبُ في مادة التعبير؛ لأنه في كل مرة يُطلَب منه أن يكتب عن موضوعٍ معين، يلوي عنق الموضوع ليكتب عن (الجمل، سفينة الصحراء)، فكتب مرة عن الربيع: “في الربيع تخضَّرُ الأشجار، والصحراء تصبح أجمل، ومن الحيوانات التي تعيش في الصحراء الجمل، والجمل سفينة الصحراء …” ثم يتحدث عن معلومته الوحيدة التي يملكها، بعد أن رسب الطالبُ للمرة الثالثة، ضاق ذرعًا، فما وجد سبيلًا إلا أن يرسل رسالة إلى مسؤول التعليم، فكتب خطابًا يشكو فيه حاله، وقلة حيلته، وأنه مظلوم للسنة الثالثة، فبدأ الخطاب بـقوله “لقد رسبتُ في هذه المادة للمرة الثالثة، وقد صبرتُ صبرَ الجمل، والجمل سفينة الصحراء …” ثم أكمل خطابه على ما كان يكتب. نعم، تمامًا كما يفعل الأستاذ أو المثقف الذي يظهر في أماكن كثيرة بموضوعات مختلفة، ستجد أنه يبدأ بمقدمةٍ عن الموضوع الأساس، ثم يربطه بمعلومته الواحدة، ليصبح الحديث عن تلك المعلومة وهكذا في كل مشاركة وظهور، حتى ملَّ الناسُ ظهوره، وعلموا عن أيِّ موضوع سيتحدث حتَّى قبل أن يبدأ؛ لأنه أصبح ظهورا مكررًا، ثم أدرك كثيرٌ من النَّاسِ أنَّ مشاركته محاولة منه لإخفاء جهله.

إنَّ أشد ما يميتُ العالمَ أن ينافسَ علمَه حظُّ النَّفس من حب الظهور بكثرة، وأقول بكثرة؛ لأن الواجب على العالم أن يكون حاضرًا ليُفيد الناس بما جهلوا من علوم الدين والدنيا، ولكن الظهور لا يكون إلا وقت ما يجد العالِمُ أنَّ في ظهوره حاجةَ الناس لا حاجة نفسه، وإلا لأصبح مثل الطالب وسفينة الصحراء، وأخيرًا، لو أدرك النَّاسُ ما في خطورة ادعاء العلم لتقاتلوا على الهرب عنها بالسيوف، فالله عز وجل يقول في محكم التنزيل: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».

فاصبروا على العلم وعن عدم الظهور صبر الجمل، والجمل سفينة الصحراء …

Scroll to Top
-->